مقالات

جمال العبادي يكتب.. العلاقات العربية الفلسطينية :من القومية الى البرغماتية

منذ نهاية الحرب الباردة وانفراد الولايات المتحدة بزعامة النظام الدولي، بدا أن العالم يسير في اتجاه تكريس نموذج القوة الأحادية، حيث أصبحت واشنطن تملي شروط التوازنات السياسية والاقتصادية والأمنية وفق معاييرها الخاصة. غير أن العقدين الأخيرين شهدا تحولات عميقة في بنية هذا النظام، إذ تراجعت فكرة “القيادة الليبرالية” لصالح منطق أكثر براغماتية يقوم على المصلحة الفورية والمقايضة، وهو ما تعزز مع صعود دونالد ترامب، الذي نقل العلاقات الدولية من حيز الدبلوماسية الكلاسيكية إلى منطق “الصفقة”. لم تعد العلاقات بين الدول تُدار عبر اتفاقيات متعددة الأطراف أو أطر قانونية دولية، بل تحولت إلى مسرح للمساومات، حيث تحكم المصالح المباشرة وموازين القوة كل شكل من أشكال التفاعل الدولي.

في عهد ترامب، انكمشت اللغة الدبلوماسية التقليدية لصالح مفردة واحدة تلخص فلسفة السياسة الخارجية الأمريكية: الصفقة. هذه الكلمة لم تكن مجرد شعار، بل تحولت إلى أداة تفسير لفهم الكيفية التي تنظر بها الولايات المتحدة إلى العالم. فالعلاقات لم تعد تُبنى على أساس الشرعية الدولية أو المصالح المشتركة طويلة المدى، بل على منطق “ادفع لتبقى” و“قدّم مقابل الحماية”. وقد مثّل هذا التحول انزياحًا بنيويًا في طبيعة العلاقات الدولية، من التزامات قائمة على القانون والشرعية، إلى علاقات قائمة على القوة والمصلحة الآنية، بما ينسجم مع النزعة الواقعية الجديدة التي تضع الأمن والمكاسب الاقتصادية في قلب صنع القرار.

هذا التحول في الفهم الأمريكي للعلاقات الدولية انعكس بوضوح على بنية النظام الدولي، الذي بدأ يفقد توازنه المؤسسي لصالح هيمنة القوى الكبرى على القرارات الحاسمة. وفي الشرق الأوسط تحديدًا، تجسّد هذا التحول بأوضح صوره، إذ وجدت الولايات المتحدة وإسرائيل في منطق “الصفقة” أداة مثالية لإعادة هندسة المنطقة بما يخدم مصالحهما الاستراتيجية. فبدلًا من مشاريع التسوية السياسية طويلة الأمد، بدأت تُطرح صيغ جديدة لإدارة الصراع تقوم على “الهيمنة القائمة على منطق الصفقة”، بحيث تُختزل القضايا الوجودية — وعلى رأسها القضية الفلسطينية — في أرقام، ومشاريع اقتصادية، وترتيبات أمنية تخدم الطرف الأقوى.

لقد مثّلت خطة ترامب الأخيرة حول غزة (التي تضمنت 21 بندًا) تتويجًا لمنطق الصفقة في صيغته الأوضح؛ فهي خطة تُسقط البعد السياسي للصراع وتستبدله بمشاريع وصاية أمنية واقتصادية تكرّس السيطرة الإسرائيلية على القطاع ومحيطه الإقليمي. هذه الخطة، التي جاءت في ظل حرب مدمّرة وتراجع الاهتمام الدولي بالحقوق الفلسطينية، تعكس بوضوح الرغبة في تحويل القضية الفلسطينية من مسألة تحرر وطني إلى قضية “إدارة إنسانية”، تُدار عبر ترتيبات مالية وإدارية بإشراف أمريكي–إسرائيلي مباشر، بما يضمن أمن إسرائيل ويفرض واقعًا جديدًا تحت عنوان “سلام القوة”.

مع تصاعد منطق “الهيمنة القائمة على الصفقات”، أصبحت العلاقة بين القوة والسياسة في الشرق الأوسط أكثر تعقيدًا وترابطًا. فكل فعل فلسطيني، سواء كان سياسيًا أو ميدانيًا، بات مشروطًا بمستوى التفاهم أو التوتر بين الولايات المتحدة وإسرائيل، أي أن حدود الفعل الفلسطيني تحددها درجة الانسجام أو التباين داخل هذا المحور. وبهذا، لم تعد الساحة الفلسطينية مستقلة في تفاعلاتها، بل أصبحت مجالًا تتقاطع فيه الإرادات الإقليمية والدولية، ضمن معادلة تضبطها موازين القوة والمصالح لا القيم أو العدالة.

أما التفاعل العربي–الفلسطيني، فقد شهد تراجعًا في عمقه وديناميته. إذ لم يعد التضامن العربي مع القضية الفلسطينية فعلًا نابعًا من التزامات قومية أو أخلاقية، بل تحوّل إلى ملف يُدار ببراغماتية مفرطة، تتأرجح بين اعتبارات الأمن الإقليمي ومقتضيات التقارب مع القوى الكبرى. هذا التحوّل أضعف حضور القضية الفلسطينية في الوعي السياسي العربي، وأخرجها تدريجيًا من كونها قضية مركزية إلى ملف تفاوضي ضمن صفقات إقليمية أوسع.

وفي هذا السياق، برزت فئة من الفاعلين من غير الدول— مثل الشركات الأمنية، ومراكز النفوذ الاقتصادية العابرة للحدود، وشبكات المصالح الإقليمية — كأطراف مؤثرة في إعادة تشكيل مسارات الصراع. هؤلاء الفاعلون يعملون في مناطق رمادية بين الدولة والسوق، وبين السياسة والاقتصاد، ويساهمون في إعادة صياغة البيئة الإقليمية وفق المنطق المصلحي القائم على المقايضة، الذي بات يحكم سلوك معظم الأطراف الفاعلة، ويعيد تعريف القوة والشرعية في الشرق الأوسط من منظور المصالح النفعية لا المبادئ.

إن ما نشهده اليوم ليس مجرد تحوّل في الأسلوب الدبلوماسي، بل في جوهر فهم العلاقات الدولية ذاتها. فبدلًا من أن تكون العلاقات أداة لتحقيق التفاهم أو التوازن، أصبحت وسيلة لفرض الإرادة. ومع تراجع مكانة المؤسسات الدولية، وتآكل شرعية القانون الدولي، باتت الصفقات هي اللغة الجديدة للنظام العالمي، لغة تتجاوز الحدود القانونية والأخلاقية، وتكرّس علاقات غير متكافئة بين المركز والأطراف.

القضية الفلسطينية، في ظل هذا السياق، أصبحت ساحة اختبار لمشروعية هذا المنطق الجديد. فكل ما هو سياسي يُختزل في الأمن، وكل ما هو وطني يُختزل في التنمية، في محاولة لإعادة تعريف المقاومة والشرعية بما يتناسب مع المنطق الأمريكي–الإسرائيلي للعصر. لكن رغم هذا الانزياح، يبقى الواقع الفلسطيني مقاومًا للطمس، إذ أثبتت الأحداث المتلاحقة أن منطق الصفقة، مهما بلغ من هيمنة، عاجز عن إنتاج شرعية حقيقية أو استقرار دائم، لأنه يتجاهل الأسس الأخلاقية والقانونية للصراع، ويتعامل مع الشعوب كمجرد أرقام في معادلات المصالح الكبرى.

مع استمرار منطق الصفقة في إدارة العلاقات الدولية والشرق أوسطيّة، من المرجح أن تتفاقم الفوارق بين المركز والأطراف الضعيفة، ويزداد اعتماد الفلسطينيين والدول العربية على التوازنات الأمريكية–الإسرائيلية المؤقتة. هذا المنطق، رغم فعاليته في فرض السيطرة، يفتقر إلى شرعية طويلة المدى ويترك فجوات استراتيجية، قد تؤدي إلى تصاعد المقاومة، وتحديات داخلية في الدول العربية، وإعادة النظر في التحالفات الإقليمية والدولية. ومن هنا، يمكن القول إن استمرار الهيمنة القائمة على الصفقة يحمل في طياته احتمالين متوازيين: تعزيز السيطرة الأمريكية–الإسرائيلية على المدى القصير، ومخاطر تفكك النظام الإقليمي أو نشوء أزمات جديدة على المدى المتوسط والطويل.

من هنا، يمكن القول إن التحولات التي أدخلها ترامب على العلاقات الدولية -وأعاد إحياءها في ولايته الثانية-  لم تُعدّل فقط أدوات السياسة، بل أعادت تعريف طبيعة القوة ذاتها، لتصبح القوة مرادفًا للقدرة على فرض الصفقة، لا على تحقيق العدالة. وفي ظل هذا التحول، يصبح النظام الدولي مرشحًا لمزيد من التفكك، وتتحول القضايا الكبرى مثل فلسطين إلى ساحات اختبار دائمة لمشروعية النظام العالمي القائم على منطق القوة والمصلحة، لا على القانون والعدالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى